الحياة في الجامعة تنقلب أحيانا كثيرا لما يُشبه العِداء بين أستاذ المادة والطالب، ويتفنن كل منهما في تعكير حياة الأخر. وأنا عايشت الكثير من الأساتذة الذين يمارسون هوايات من نوع غريب تُصنف تحت هواياته التي لا يعلم عنها أحد، أو هواياته التي لا يمارسها في بيته أبدا. أجزم بأن الكثير منهم يختلق شخصية أخرى يتقمصها بعنفوان أكاديمي ويتراقص معها في ممرات الجامعة، وكأن بعضهم لا زال يقتات من وهم الشهادة التي حصل عليها في أبعاد الأرض المختلفة وبها يعلو عن الاقتراب من الطالب. كأني ببعضهم يمارس سادية أدبية في حق طلابه. ما الذي يجعلني أنا وغيري من الطلاب نتشوق لهذا الحديث، طبعا تشوّق المُضام، بل ونقتص الكثير من الوقت لما يشبه التفريغ النفسي لما نعانيه من علاقة متوترة وغريبة مع الأساتذة، الذي يدعوني لهذا هو وجود النقيض، بمعنى وجود الأصل في صفة النقيض. أنمار مطاوع هو الأصل في صورة النقيض. إنه أحد القِلة " المُندسة" من الأساتذة الأحياء الذين يمثلون ويستحقون كلمة " أستاذ". وبما أننا في الجامعة بتنا نتلقط خيط سلامتنا فيما يشبه الخضوع الكامل للأساتذة فنناديهم في انجفاء لحظي " يا دكتور .. يا دكتور..! " ، وهو لم ينل درجة الماجستير أصلاً، ولا يُضيره أن نناديه بهذا اللقب الثمين، بل لا تملك نفسه تطوعا إنسانياً فيُخبرنا بأنه لم يَنل الدكتواره بعد. إن شخصية أنمار مطاوع أثبتت فعلياً نجاح أستاذ الجامعة في صورة أستاذ الجامعة، أرجو أن يكون حديثي مفهوماً. لقد باتت شخصية أستاذ الجامعة مزدحمة بتعقيد أثيري وعتيق لتتحول فيما يشبه نظرية التطور إلى كائن غير قابل للاستجابة لعملية الإتصال الانساني أثناء وقت المحاضرة وبعده وفي كل وقت أخر. أضف يا سيدي إلى ذلك النظرة العامة التي ينظر بها معظم الأساتذة إلى الطلاب على أساس من أنهم جهلة وأغبياء وغير مُجهزين أبدا ليتحولوا من طلاب إلى مرحلة أخرى أياً كانت. هل تجدني متشائماً ؟!، أبداً .. هذا حقيقة ما يحدث. ولماذا احكي هذا الحديث الناقد أصلاً وأنا اريد أن احكي أنمار مطاوع ؟! بسبب العلّة والخطأ التي باتت أصلاً بانتشارها وتكررها. ست سنوات قضيتها في الجامعة لم يشاهدني أنمار مطاوع مرةً إلا وابتسم في وجهي وهو لا يعرف حتى اسمي، ولكنه يعرّف جيدا أني انتظمت في مادة "مهارات الاتصال" في شعبته الزكية في أول فصل دراسي لي. يعرف أني درست عنده مرة ولم ينسني أبداً. لقد تذكرت وجوه بعض أساتذتي في الثانوية الذين كانوا يشيحون بوجوههم عني عندما يروني خارج المدرسة كأني لقطة عِفنة عكّرت لحظة عاديّة من حياتهم. والمرات التي كنتُ فيها قريباً منه ابتدرَ بيده مصافحاً لي قد ارتسمت على وجهه ابتسامة عذبة صافية صادقة قد رضي الله عنها، ثم لا يترك يدي حتى اترك يده، وقد انفجرت فيّ طاقة الخجل الطبيعية، فيناورُ معها في جمال حواري جمّله الله به، حتى ينتزع مني بعض الكلمات في شكل إجابات لاسئلته الصادقة الخفيفة. وفي المرات التي أشاهده فيها يتحدث مع أحدهم اتوقف بعيداً انظر إليه، أنا أحبه، وتعجبني حيويته التي يبعثها نحو مُحدثه، إنه يحني رأسه خافضا أذنه لفمِ صاحبه، سواءً كان أستاذاً أو طالباً أو عاملاً، ثم يتجه إليه بكل شعوره وحواسه يُسير إليه طاقته المنعشة وخبرته وجوابه في شكل حوار إنساني جذّاب لا متقطع ولا مُمل. في لحظات الوقوف أمام هذا الانسان أشعر بتأنيب يأكل شطائر الفرحة في قلبي، حيث إني أقع فريسة النظر إلى جمال خُلقه مُزدان بجمال خَلقه وانسى حديثي الذي جئتُ من أجله، يبتسم لي وينتظرني حتى اُواري ارتباكي واُرتب جُملتي وبعدها ينفحني بحديث عذب وكلمات تتدلى في أذني مثل الشعور البكر حين يعتصف بالنفس فيُغلفها فيما يُشبه الاحتواء الزكي. هؤلاء الطلاب الذين يتسربلون في الممرات وفي ساحات مباني الكلية يستوثقون من أصدقائهم السابقين سُمعة كل أستاذ، ووفقا لهذه السُمعة والشهرة يَمدّون حواسهم للقياس والتأكد، هذه شريعة الجامعة وعلى الرغم من اهترائها إلا أنها شريعة تحظى بمؤيديها الكُثر. هؤلاء الطلاب يتعلموا أساليب أخطبوطية ماكرة في تعاملهم مع أساتذتهم، فهم في الغالب يتشبثوا بالنفاق ويلتزموا بخاصية تقلّب الحرباء و"التمزمج" - إن صح التعبير- وفقاً لمزاج الأستاذ وحالته الشاعرية الوجدانية !. فهم يصطنعوا وجوها ليست وجوههم وكلاما ليس هو بالفعل ما تضجّ به أفئدتهم، ثم يبذلوا ابتسامات صفراء وغبراء ورمادية جافة رغم بهائها الظاهر وزاهية التزلف وزائفة جدا كالأقنعة البلاستيكية المّلونة، حتى يرضى عنهم هذا الأستاذ المُوقّر ويمنحهم درجة العبور. لدينا في الجامعة عدة تصنيفات لهؤلاء الأساتذة من هذا النوع. لدينا أساتذة " العبور"، وأساتذة " 75"، وأساتذة " حلاوة مصاص"، وأساتذة" حول العالم"، والله يستر. وهذا يُثقل كاهل الطالب النفسي ويفقد الراحة ويشعره بضياع نفسه بين هذا التنوع الغريب، ولكن الاستراحة الأكيدة والمنشودة هي المحاضرة التالية التي ستكون عند الدكتور أنمار مطاوع. لأن المحاضرة عنده ليست مُجرد درس في الجامعة، إنها درس مؤكد للحياة بأكملها، فتنة الإلقاء والاتصال بالطلاب تظهر في أوجّها في القاعة التي تحتضن هذا الرجل، في الحقيقة إنه لا يُلقي الكلام جِزافاً، بل يُعده إعدادا طويلاً. الآن افتقد أنمار مطاوع بعد أن تخرجت من الجامعة، وأيقنت أن الدكتور أنمار كان يُعطي محاضرة طويلة على مدى سنوات دراستي في الجامعة، محاضرة مُتصلة حتى في اللحظات العابرة التي يبتسم لي فيها حين أصادفه في الممرات. يعلم كل الطلاب الذين درسوا عنده، أنه الدكتور الوحيد الذي لا يُحضّر الطلاب، وذاتهم هؤلاء الطلاب لا تتواطئ قلوبهم ليُفوتوا محاضرة واحدة عنده. لقد احترَمَنا هذا الدكتور، لقد اشعرني بوجودي على هذا المقعد البارد، لقد اشعرني بأهمية رأيي، لقد أنصتَ إلي بكل إهتمام، لقد اقترب من كل طالب كان يتحدث، لقد كان يسمح بكل مداخلة، - كلمة يسمح هنا هي كلمة شاذّة وغبر مناسبة- ولكنه كان منفتح للغاية مع كل كلمة ينطق بها أي طالب في القاعة. واتذكر كثيراً وجيدا أنه تعاطى بأريحية وصدق مع كل الطلاب الذين يطرحون أسئلة خارج نطاق المادة وكنّا نحن الطلاب نتذمر من خروجهم عن المنهج. تتملء القاعة وأنمار يستحيل أن يُحضّر الطلاب. هل يعلموا الاساتذة الأخرين ؛ ما الذي يفعلونه بنا ؟ وهل يعلموا حقا ما الذي يفعله لنا أنمار ؟ حقا .. حقا.. عليهم أن يعلموا، ولا عيب أن يتعلموا. عملية التعليم هذه العملية المعقدة يجدر بها حينما تصل إلى هذه المرحلة العمرية أن تتجه نحو الإنفتاح بما يؤهل المُتعلم للاندراج في كيانها وتحت ظِلالها برغبة فكرية ونفسية أكبر وأعظم. وهنا يتنافس أساتذتنا إلا ندرة منهم في تقويض بنيان هذه الفكرة التعاونية للمضي بالحياة والجو التعليمي الجامعي نحو سماء أكثر وضوحاً وصفاءً خيراً من هذه العتمة إلا قليلا من ضياء زاكي. إن الدافع لدى أنمار هو أن يُعيد الثقة المفقودة لدى الطالب السعودي الذي اجهضها التعليم طوال سنوات دراسته وعلى مراحل... وحتى في تلك المرات التي حضرن فيها طالبات عبر الدائرة التلفزيونية وكان بإمكانهن سؤال الدكتور عبر الهاتف، كنتُ ابصر رجلاً يعي معنى أن يهب الطالبة السعودية فرصة لتقدم سؤالها عن بُعد ومن خلف ما يشبه السوار الآمن، لقد رأيته يبذل الاحترام للجميع ويحاول بأقصى ما يُمكن أن يُشرك الجميع في هذا العمق. أعلم جازماً أني اُعبّر هنا عن الكثير من الطلاب والطالبات الذين يحملون في أنفسهم محبة مزدهرة وعظيمة لهذا الانسان، وهذا يفرحني، لأن ظروف الجامعة لا تسمح في كثير من الأحايين أن نظهر مثل هذا الحب، ولكن أنمار يعلم جيداً ما يفز عن أعيننا حين تراه وما يتلألأ في وجوهنا ونحن نتحادث معه. وقبل أقل من شهر كنتُ ألتقيته عند مكتبه وبعد السلام عليه طلبتُ منه توصية أو تزكية، فرد بالإيجاب وقال ستجدها بعد قليل عند السكرتير. وحين استلمت التوصية وجدته قد كتب لي مالم يكتبه الأستاذين الأخرين اللذين طلبت منهما ذات التوصية، كتب في سطر الملاحظات : "السيد الزهري واحد من أفضل 5 طلاب في فصلي ! ". يهمّه كثيرا الثراء الذي يبعثه في أنفسنا. هو يعلم جيدا ونحن نعلم أننا بحاجة لمزيدا من التعليم ومزيدا من الفرص لنصل لتلك الدرجة التي نحصل بعدها على مثل هذه العبارة، ولكنه يتعمد أن يمنحها مبكرا ولنحصل على الدرجة فيما بعد. أجد في وحي نفسي الكثير من الحديث، ولكني لا أود أن افكك واقطع وارتب قطعي الحرفية لأني ضعيف في رتق بنية هذا النص وربما احوّله من مجرد مصافحة لباطني وإحسان يُمكّني من المضي إلى ما يشبه مقطوعة وفاء سامجة، على الرغم أن الوفاء صفة حميدة، ولكن هذا الحديث ليس لمجرد الوفاء ولكنه إبراء لذمتي حيث تستطيع بعد ذلك أن تلوذ بالحياة من جديد. ومرة وبعد أيام قليلة من وفاة والد الكتور أنمار، رجل الصحافة السعودية حامد مطاوع الله يرحمه، اقتربت منه اقدم له واجب العزاء، صافحته وسألته عن صحته وحاله وبقي صابراً وفياً ينتظر مني أن اقدم له تراتيل العزاء كما قدمها كل الطلاب له، وبعد ذلك اصبحت أشعر بمزيج من الشجاعة والاحتفال بأني عرفت هذا الرجل وكأنه لا يشبه أستاذ في الجامعة، فقد اجتث من مستنقعات خوفي صروحا وأصناما خلقتها الجامعة في داخلي لسنوات ممتدة. متأكد أني ذكرت في السطور السابقة كلمة " زكي" ثلاث مرات لأنها تعني أنمار. رحم الله أيامك يا دكتور أنمار. كم أحبك .. وكم يفرحني ويجعلني مسرورا منظر دخولك قاعة المحاضرة كل مرة., وكل يوم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق